مجزرة الأرز الأطلسي – “التقسيمة 203” تحت المجهر
– تقرير خنيفرة.. فلاش24.
في قلب الأطلس المتوسط، حيث كان يجب أن تعلو همسات الرياح بين أغصان الأرز الشامخ، يعلو اليوم صرير المناشير وأنين الأشجار المقطوعة، بين خنيفرة وإفران، تكتب فصول مأساة بيئية صادمة، أطلق عليها المعنيون اسم “مجزرة الأرز الأطلسي”، مركزها ما يعرف بـ “التقسيمة 203”. هذه ليست مجرد عمليات قطع عشوائي، بل هي قصة استنزاف منظم، وفشل مراقبة صارخ، وتحريض رقمي، وثغرات قانونية تستغل ببرودة أعصاب.
التقارير الميدانية وصور الأقمار الصناعية تكشف لوحة قاتمة: عشرات، بل مئات، أشجار الأرز الأطلسي الثمينة، تقتلع ليلا ونهارا بمنتهى الجرأة. ليست أعمالا عشوائية، بل تنفيذ باستراتيجية محترفة تشي بوجود شبكات منظمة. الدلائل تشير إلى “تدمير فني” للأشجار، حيث يتم القطع بطريقة تحاكي “القصاصات” لاستخراج أجود أنواع الخشب، هذا المشهد الدامي دفع نشطاء البيئة وخبراء الغابات إلى وصفه دون تردد بـ”التخريب الغابوي المنظم”، تنفذه ما يشتبه في كونها مافيات غابوية تستفيد من فراغ الرقابة وغياب الردع. لم يعد الصمت خيارا لساكنة أكلمام ، الجهة الأكثر تضررا من هذه المجزرة. ففي خطوة رسمية، استدعت جمعية أكلمام الإدارة الإقليمية للمياه والغابات بخنيفرة ، مطالبة بتوضيحات عاجلة وحاسمة حول هذه “القصاصات الليلية” المشينة. الرسالة كانت واضحة: هذه العمليات تمثل انتهاكا صارخا لقوانين حماية الغابات، وخاصة الظهير الشريف المؤرخ في 1976، الذي يعد حجر الزاوية في التشريع الغابوي المغربي. السؤال الذي يطن في الأجواء: أين كانت عيون وآذان الرقابة؟
لا تكتمل صورة الكارثة دون النظر إلى خلفية الإدارة المحلية. فالقرار البلدي الصادر في 18 يوليوز 2025 ، والذي أجلت بموجبه المصادقة على بيع منتوج غابوي لإحدى التعاونيات ، كشف النقاب عن ورم متنام: تضارب المصالح. السبب المعلن؟ كون أمين مال الجماعة هو نفسه عضو في المجلس الذي يفترض أن يراقب ويوافق! هذا القرار، وإن كان احترازيا، يسلط الضوء على “خيوط مصالح مترابطة” قد تكون وقودا لهذه الأزمة، ويطرح تساؤلات كبيرة عن شفافية التسيير وحياده.
وسط الضباب، تطفو على السطح تسريبات خطيرة: هل تمت عمليات القتل البيئي هذه تحت غطاء ترخيص قانوني؟ يشاع أن المصالح الجهوية أصدرت ترخيصا للتقسيمة 203 قبل أكثر من عامين ، لكن الغموض يكتنف مصير هذا الترخيص مع الترسيم الإداري المتذبذب للتقسيمة: نقلها إلى نفوذ خنيفرة ثم إعادتها فجأة لإفران! هذه اللعبة الإدارية غير المبررة خلقت حالة من “الفراغ القانوني المرعب”، فتحت الباب على مصراعيه أمام نهب الثروة الغابوية تحت سمع القانون وبصره.
غياب الرقابة الفعالة، وتشعب المسؤوليات، وثغرات الترسيم، كلها عوامل شكلت بيئة خصبة لشبكات التهريب الغابوي، هذه الشبكات تعمل بلا حسيب ولا رقيب، مستغلة حالة الفوضى لـ”نهب عشرات الأشجار تحت أنظار الجميع”. لقد تحولت غابة الأرز، رمز الجمال والهوية، إلى ساحة نهب مفتوحة.
الوضع تجاوز مرحلة الإنذار إلى مرحلة الخطر المحدق . إنقاذ ما تبقى من رئة الأطلس المتوسط الخضراء يتطلب إجراءات استثنائية فورية:
1. لجنة تحقيق مستقلة وشفافة: للكشف عن ملابسات “مجزرة التقسيمة 203، وتحديد المسؤوليات بدق (من تقاعس؟ من تورط؟)، وتحريك المتابعات القضائية ، وتطبيق أقصى العقوبات .
2. تعزيز الشرطة البيئية: بتزويدها بالإمكانيات والكوادر اللازمة للرقابة الفعالة المستمرة، وليس الحملات المؤقتة.
3. تفعيل دور التعاونيات المحلية: كشريك حقيقي في الحماية والاستغلال المستدام، مع ضمان الشفافية الكاملة في منح تصاريح الجني.
4. توحيد وترسيم واضح للغابات : وضبط إجراءات منح التراخيص من طرف المندوبية السام للمياه والغابات بشفافية مطلقة، مع نشرها للعموم.
مجزرة التقسيمة ليست مجرد تقرير عن دمار بيئي. إنها جرس إنذار مدو يهز ضمير الأمة. إنها شهادة على كيف يمكن أن تتحول ثروة طبيعية عمرها مئات السنين، إرثا للأجيال، إلى ضحية للجشع والفساد والتواطؤ والتماطل الإداري . الصور الحزينة لأشجار الأرز المذبوحة على وسائل التواصل ليست سوى البداية، إذا لم يتحرك الضمير الجمعي، وإذا لم تتخذ الإجراءات الحاسمة الان، فلن يبقى من غابات أرزنا الأطلسي الأسطوري سوى ذكريات وصور حزينة، وشواهد على مجزرة صمت عنها الجميع.
المطلوب اليوم ليس الكلام، بل الفعل، قبل أن تصير “التقسيمة 203” نموذجا يحتذى للدمار، وقبل أن تتحول ثروتنا الخضراء إلى أسطورة من الماضي.