شتاء تاونات المغترب..

0 88

احصل على تحديثات في الوقت الفعلي مباشرة على جهازك ، اشترك الآن.

عادل عزيزي

 

ثمة تشابه بين سماء تاونات وسقف السجن، كلاهما أجرد الملامح لا علامات فارقة فيه، تثيران الضجر لمن ينظر إليهما ليقتل الانتظار، فيقتله الانتظار..

نحن محكومون كذلك بالانتظار، مثل أم تقف خلف حاجز صالة الانتظار تراقب المارين بعرباتهم، تفتش بين الوجوه عن ابنها المغترب الذي قال لها أنه قادم على هذه الرحلة، تدقق بسمعها أكثر في وقع أقدام المسافر الأخير هل هي مشيته؟ لا تستطيع أن تجزم، يخرج الشرطي يغلق الحاجز باستراحة قصيرة للرحلة القادمة، تخلص وجبة العائدين ولم يحضر..

نحن الواقفون في صالة الجفاف، ننتظر كل المنخفضات القادمة على خطوط الغيم، نفتش في وجوه الأيام المسافرة، ندقق أكثر في وقع أقدام الريح هل تحمل رائحة الشتاء وعرق الأرض المشتاقة؟؟ فتطلق ريح ضجرة زفيرها وتغلق حاجز الانتظار لشهر قادم..

في تشرين “أكتوبر” كانت تبتل واجهات بيوتنا الطينية مثل أب تعب، ويصيب المطر أذرع الخشب وأعمدة الشجر، نسحبها إلى داخل بيت الطابون لتنشف قليلا حتى يأتي دورها في الاحتراق، الحمام ينفض ريشه المبتل يهدل بين فاصلي مطر..

في تشرين كان الصمغ اللؤلؤي ينبت على أغصان الزيتون، يذوب مع أولى قطرات الشتاء كدمعة دفء على خد الغيم، فيثير فينا شهية اللعب، السهول حمراء كجبلة حناء، والرجال عائدين من تعب الحرث، تسبقهم رائحة الطين والعرق والطمأنينة…

في تشرين كانت تجمع الأمهات الغسيل باكرا، ومن شرع في بناء غرفة إضافية لغرفتيه المصفوفتين كان يغطي حيطانها بالأكياس والبيشان خوفا من أن ينتزع هواء المنخفض كل الأغطية ويبلل الطين..

وكنا ننتظر النشرة الجوية أكثر من نشرة الأخبار لنشاهد المرحومين عزيز الفاضلي أو سميرة الفيزازي في الأبيض والأسود ليشيران لنا حول المنخفضات التي تتمركز في الشمال والفرصة المهيأة لسقوط الأمطار..

في الليالي الباردة المبتلة بماء المطر كان لطعم “البصارة” مع زيت الزيتون طعم مختلف يدفئ الروح..

والجلسة العائلية في الغرفة الكبيرة دفء لا يشبهه شيء..

وخيط “اللامبة” المتدلي في الركن يضيء كنجمة وحيدة على نافذة الطين جمال لا يشببه شيء..

وسكون الأمهات يشبه ترتيلة المساء وقار لا يشببه شيء..

وجلسة الآباء حول” الجمر” حكاية صبر ووقارٍ ودفءٍ قديم، وظل دفء يحرس ليالينا من البرد والنسيان..

و”البطانيات” المصنوعة من صوف الغنم المخططة بألوان عريضة سوداء تدغدغنا خشونتها عند النوم حضور مختلف..

يا أيها الشتاء المغترب، هذه رسالة شوقنا اليك.. فاقرأها متى شئت وكيفما شئت وقرر موعد قدومك أنا شئت..

يا أيها الشتاء المغترب لا تطل وقوفنا في صالة الانتظار.. فقلوبنا عطشى.. وأيامنا تقلع كل مساء على مدرج اللاعودة..

يا أيها الشتاء المغترب كن أبا مثلنا واشعر بشوقنا…

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.