0

احصل على تحديثات في الوقت الفعلي مباشرة على جهازك ، اشترك الآن.

 

اسماعيل شفقي

خريج ماستر السياسات العمومية

باحث في الشؤون السياسية و الدستورية.

 

ظل البرلمان مهدا سياسيا للديمقراطية و معقلا تاريخيا لممارستها، إنه وجود سياسي الهوية، تمت مأسسته بصيغ دستورية و مسطرية، و اقرار فاعليته ضمن الدوائر و الصيرورات القرارية في الدولة.و على امتداد هاته المستويات (سياسية_دستورية_قرارية) ظل البرلمان وفيا للسياق التدافعي و الطبيعة الصراعية للنشأة، السياسية بامتياز!

هي الحقيقة التاريخية، التي تقاسمتها منهجيا ثلاث حقول معرفية؛ تناولت ذات الوجود،باختلاف في المناهج و زوايا النظر، و هو ما افرز خريطة علمية كانت ابرز خطوطها ما يلي:

_مسلك القانون الدستوري حيث يثار البرلمان “مؤسسة و سلطة دستورية” بمنطق دستوراني بمقاربات مسطرية و معيارية في هامشها الأكبر يثار فيها البرلمان ضمن مبدأ فصل السلط و تنظيم مؤسسات الدولة الحديثة.

_مسلك السياسات العمومية و التي تتمثل البرلمان كدائرة قرارية و لحظة قرار، باختلاف في تقدير هذا الإسهام القراري بين الفاعلية و الوساطة و الأذاتية..

_مسلك علم السياسة و الذي يتبنى البرلمان ك “فكرة” و ك “فضاء سياسي” و هو بذلك امتداد للفضاء العمومي في أثينا القديمة، و ينتعش في هذا الإطار نقاش الديمقراطية السياسية و الفكر السياسي لفلاسفة العقد الاجتماعي و مأسسة الإرادة العامة، و قد ينفذ هذا المسلك بحكم التقارب الموضوعي و المنهجي مع علم الاجتماع السياسي الى المنطقة السوسيو_سياسية و تفكيك بنية السلوك السياسي و تشريح العقل الاجتماعي و مسارات التنخيب البرلماني…

تقع أفكار هذا المقال التحليلي ضمن المستوى الأخير (علم السياسة)، و بذلك تقع على خط تماس مع المستوى الثاني (السياسيات العمومية). نقارب فيه واحدة من أعمق الوظائف السياسية البرلمان: وظيفة اضفاء الشرعية السياسية على القرار العمومي و تسييس الفعل القراري، على اساس مساءلة فاعلية المؤسسة و فعالية تدخلها، على محك الشرعية السياسية للمؤسسة البرلمانية ذاتها.

 

منطلق الفهم و التحليل في هذا المستوى أن مجموع قرارات و سياسات الدولة، بالقدر الذي تحتاج معه للعقلنة التدبيرية و المسطرية، و العقلانية الموضوعية و القرارية لحظة بلورة السياسات و تبني القرار العمومي، فهي تحتاج بذات القدر للتأييد السياسي و حشد القبول الشعبي عند التصريف و الأجرأة، لضمان الإنسيابية التنفيذية للسياسة العامة.

إن الطبيعة السياسية الديمقراطية الانتخابية للمؤسسة البرلمانية تجعلها أكثر الفضاءات التي تراهن عليها الدائرة القرارية المركزية الفعلية لضمان هاته الإنسيابية، و تعزيز البعد السياسي للقرار العمومي و الشرعية السياسية و التوافقية في مستوى متقدم.

اثن الضرورة المنهجية تقتضي، لمحة خاطفة في مفهوم الشرعية السياسية قبل إثارة الميكانيزمات البرلمانية في ممارستها،

يقصد بالشرعية السياسية في عديد الكتابات : إضفاء القبول و الرضى الشعبي على السلطة القائمة و على اختياراتها و سياساتها العامة.

نسجل منهجيا، الاختلاف الجوهري بين مفهومي الشرعية و المشروعية، فهاته الأخيرة تفيد مطابقة إعمال الدولة للشروط القانونية و المعيارية، في حين تفيد الأولى مطابقة وجود و أعمال الدولة ل “المزاج الشعبي” و نسقه القيمي و الثقافي و متطلب الاستجابة للمصلحة العامة. تتعزز هاته الملاحظة المنهجية بأخرى تفيد الاختلاف بين الكتابات السياسية المشرقية و المغاربية في اعتماد المفهومين، فالشرعية في الكتابات المغاربية تفيد المشروعية بالقلم السياسي المشرقي.و العكس، مما جعل العديد من الاعمال تقع في الخلط الموضوعي و التخبط المنهجي عند التناول.

و قد اتفق الفكر السياسي و الدستوري ان الشرعية السياسية أساس قيام و استمرار الدول، لكنه اختلف في تحديد عوامل و أسس هاته الشرعية، حسب السياقات التاريخية و ما ينصهر فيها من محددات. فجعلها عراب الواقعية السياسية الفيلسوف الايطالي نيكولا ماكيافيلي تتأسس على القوة، في حين اتجه فلاسفة العقد الاجتماعي الى اعتبارها محصلة توافق “حاكم_محكوم”، مع اختلاف بينهم في طبيعة التعاقد (اطرافا و بنودا و مخرجات)، لقد اتفق منظرو العقد الاجتماعي في منهجية بناء الشرعية السياسية و اختلفوا في بنيتها و مضمونها.

فقدم طوماس هوبز مرافعة فلسفية لصالح الحكم الاستبدادي المطلق و المستدام، مستندا إلى الالتزام الدولتي بتحقيق الأمن كأساس للشرعية السياسية، التي أقامها الأب الروحي للفكر السياسي الليبرالي جون لوك، على حماية الحريات الفردية و الملكية الخاصة. و جعلها جون جاك روسو تستند إلى الإرادة العامة. دون حاجة للتذكير بثلاثية الفيلسوف ماكس فييبر و انماط الشرعية الثلاث، الكاريزماتية المستندة الى فكرة الحاكم الملهم، بخصائصه الاستثنائية غير معتادة في سواد العامة، و هي مزيج حب و خوف و هيبة. الشرعية المستندة الى التقاليد الموروثة، و فيها يستند الحاكم في وجوده و فعله الى الرمزيات و الرموز، التاريخ، عراقة السلالة الحاكمة، و من الأسطورة و الرواية السياسية. و اخيرا الشرعية العقلانية، المستندة للقانون و المساطر و صناديق الاقتراع.

فالأول يمارس السلطة بمنطق القدرة و الإستثنائية، و الثاني بمنطق الحق التاريخي و وجوديات الكون السياسي. أما الثالث و الاخير فباسم القانون و الصلاحية و الاختصاص و المسطرة. و يظل هذا الأخير النمط الأكثر تماشيا مع شروط الدولة الحديثة و العمل الممأسس ، و الأكثر استجابة لمتطلبات الديمقراطية اللبيرالية.

كانت هاته التقعيدات المنهجية و المفاهيمية أساسية، و تنتهي بنا الى خلاصتين أساسيتين:

أولا: تهجس الدول و الأنظمة في وجودها و في دينامياتها بسؤال الشرعية السياسية، ظل هذا السؤال مرافقها لها عبر التاريخ و إختلفت طبيعة الجواب السياسي المقدم بما يستجيب للثقافة السياسية و السوسيو_سياسية..

ثانيا: انتهى الفكر السياسي و الدستوري المعاصر إلى اعتبار المنطق و المنهجية الديمقراطية أساس الرضا الشعبي و بالضرورة أساس الشرعية السياسية، و بذلك اصبح الانتخاب مركز العملية، و أصبح بذلك البرلمان في قلب معادلة الشرعية السياسية؛ تنبثق عنه الحكومات و يراقبها، و بيده من الأليات ما يمكنه معاها إعدام الوجود الدستوري للحكومات. وأصبح رهان الدوائر القرارية المركزية الفعلية، عليه كبيرا في تمرير و تحصيل الرضا و التوافق حول القرارات المتخذة و السياسات المعتمدة.

و تأسست بذلك الثنائية الأصيلة “السياسات العمومية و القانون”، مثالها “السياسة الضريبية و القانون الضريبي” السياسة الجنائية و القانون الجنائي”… فالقانون/الموقف البرلماني المرسم، في إطار السياسة العمومية لا يمثل فقط الجانب الإجرائي و المشروعية المعيارية، بل يجسد الشرعية السياسية كذلك. يتأكد هذا البعد بالحضور القوي للتمثيلية البرلمانية لدى المجالس الدستورية و الصيغ الدولتية الرسمية (المجلس الأعلى للأمن،المحكمة الدستورية…).

إن ما يحوزه الفاعل البرلماني من قوة إنتخابية و رمزية التمثيل الشعبي تمكنه ديمقراطيا من المساهمة في تعزيز شرعية السياسات العمومية، و قبل ذلك تسييس الفعل القراري، و التخفيف من الحدة التقنية لصناعته.

تستند المؤسسة البرلمانية في نهوضها بوظيفة إضفاء الشرعية السياسية على الفعل و المضمون القراري، أساسا على طبيعتها و هويتها السياسية الدينامية، بما ينصهر في هاته الذاتية البرلمانية من خصائص _بمثابة ميكانزمات عمل_ نشير الى بعضها على سبيل المثال و الاستئناس:

أولا: الرمزية و الشرعية الانتخابية، ينطلق الفهم في هذا المستوى من كون الشرعية الانتخابية أساس لشرعية الوجود السياسي، الذي يؤسس بدوره لشرعية الاختيار ثم الفعل السياسي. و عادة ما يذكر الفاعل البرلماني بأصوله الحزبية و مسلكه النضالي و طبيعته الانتخابية..

ثانيا : تعددية التشكيلة البرلمانية، من خلال نظام الغرفتين، و تعدد اللون السياسي أو الطيف الفئوي، داخل الغرفة الواحدة، ان هاته التعددية تضفي على السياسة العمومية الطابع التوافقي منهجيا، و تمتع القرار بدرجة عالية من التوازن الموضوعي.

 

ثالثا: الغية التداول الحر، إن المناقشات البرلمانية بمثابة دفوع و مرافعات سياسية لصالح القرار و التوجه، إن البعد الاستراتيجي لحرية المداولات، في إضفاء الصدقية على التفاعلات البرلمانية، و طابع المصداقية على مخرجات المناقشة البرلمانية.

رابعا: التواصل السياسي، بما ينطوي عليه من رمزيات، و إيحاء، و استراتيجيات الخطاب و التأثير، و باشتغاله على جوانب عاطفية يستطيع التواصل السياسي الفعال حشد التأييد و التعبئة لصالح السياسة المعتمدة، خاصة في إطار ما يسمى في العلوم السياسية “التمسرحات السياسية”. و ظلت المؤسسة البرلمانية على امتداد التاريخ و التجارب فضاءا “للتواصل و الكلام السياسي”.

 

خامسا: الادلجة، الاديولوجيات بما تنطوي عليه من نسق فكري و زخم عاطفي، اعتبرت على امتداد التاريخ الإنساني_السياسي آلية فعالة لخلق القواعد المؤمنة و العقائدية في تمثلاتها السياسية، و لا تزال تعتمد في عديد الحالات و الفضاءات السياسية سيما الصراعية منها. تعتمد أدلجة النقاش لتحقيق الفرز و تكريس الاصطفاف و اضفاء هالة القداسة على المشروع و الفكرة السياسية و ما يتتبعها من توجهات و سياسات و قرارات.. و ثمة يعتمد الفاعل البرلماني في نقاشاته الادلجة في عديد الحالات لتحقيق القبول بالسياسة المقترحة، او نقضها، و لإحراج الفرقاء السياسيين..

إلا أن البرلمانات عبر العالم، صارت تفقد جاذبيتها في إطار “أزمة الديمقراطية التمثيلية” و بذلك صارت تتآكل شرعية الوجود البرلماني ذاته، نتيجة لمجموعة من العوامل التي أثرت على فعالية الادوات السالفة الذكر، من افول نجم الاديولوجيات و فقدان مصدقيتها و ارتباطاتها بالواقع المتغير، و فقدان الفعل النضالي الجماهيري لجاذبيته سيما أعقاب 2011, و اخفاق الفاعل البرلماني في تبني نماذج تواصلية استقطابية، و بطغيان النزعة المادية البراغماتية صارت تفقد الرمزيات السياسية قدرتها على الفعل في القواعد.

أزمة البناء الحزبي, أزمة الخطاب السياسي، أزمة الفعل النضالي.. كلها تصب في المحيط البرلماني.

و صار الرهان على المؤسسة البرلمانية في اكساب الفعل القراري صبغة التسييس، و اضفاء طابع الشرعية على المضمون القراري، يتضاءل..

في مقابل انتعاش صيغ أخرى تقوم بدور بناء الصورة و الموقف.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.