سهول التيه

0

احصل على تحديثات في الوقت الفعلي مباشرة على جهازك ، اشترك الآن.

سهول التيه

بقلم ادريس بنيحيى

ٱنغرس وجه المدينة في هذا الإمتداد السهلي الذي لا نهاية له حدّ المرأى، وتلك الدور المكتظة هنا وهناك على السهول والهضاب، بينها طرق وأزقة تشق طريقها نحو وادي بهت الميت حتى من نقيق الضفادع المتشردة، وهذه الطرقات والأزقة المهترئة والخالية من النور، تنم على أن هنا من يكابد المرور منها يوميا مضطرا، وذلك الغبار الذي يحجب حدود ما بين المصابيح ذات الضوء المنعدم والأرض، حتى حجب المارة الذين أصبح لالون لهم ولاشكل ولاظهور، وهذه الأزقة المهترئة والساكنة، إلا من بعض أصوات بائعي المتلاشيات وسمك السردين، كأن الشمس بلهيبها والمصانع بإغلاقها والضيعات بخوصصتها، قد أخمدت وأطفأت فيها الحياة وأغراس بهت المنطفئة التي تقاوم العطش والجفاف بصبرها المعهود، والمدينة الصغيرة تقاوم الجفاف وحرارة الشمس، يحتضنها السهل ويجود بما تبقى من كرمه خوفا على الدواب والطيور والوحيش في مراعيها، بعدما هاجرت ضفاف وادي بهت الذي جف ماؤه منذ فترة، ويقولون قد سرق، فأصبح عبارة عن رواسب متشققة وأعشاب يابسة تقتات على ماء الصرف الصحي.

تخلَّفَ النهر عن فيضه وسخائه وماتت أسماكه، وانتهت أشجاره إلى يبوس وهلاك، وجَفَّت ينابيع المياه الجوفية بفعل فاعل، مع قِلَّةِ التساقطات المطرية وجشع زارعي الأفوكا والفراولة المعدتين للتصدير.

الحياة شبه ميتة في هذه المدينة المغبونة وضواحيها، حتى أشجارها تقاوم وجه الجفاف الطبيعي والسياسي اليابس والقاسي، في صمت ومكابرة وعناد وتحدي!!! تتحدى قساوة الطبيعة ومسلكيات البشر المتجبرة.

الدُّورُ الواطئة شاحبة كمعالم قلعة مهجورة أو سقطت تحت غزو جديد، الحياة مملة وبائسة لاجديد فيها، والشمس ترسل أشعتها الساطعة في تأنٍّ وحرقة لافحة، تلتهب الوجوه والأمكنة وماتبقى من شجر شارع محمد الخامس كنيران غاضبة خرجت للتو من أفواه بركان هائج، السكون يدب في النفوس الظمأى والمتآكلة الأفكار والأجساد، حتى تكاد تشرف على الهلاك. الزواحف وما تبقى من الكائنات الغريبة هاربة مختبئة في جحورها تحت الأرض مستكينة وللفتنة موقدة وللبهرجة مستعدة.

السماء زرقاء تكتنفها سحابة سوداء متناثرة في الفضاء كتناثر أحلام شبابها، الناس يرقدون كأشباح في ملاجئهم الإسمنتية وعلى رصيف الشوارع، يلوذون بالسراديب والدهاليز المظلمة، فمنهم من يفترش الحصير والزرابي البالية القديمة، وأخرون يفترشون أخر صيحات الزرابي التركية والغربية، ومنهم من يرش المياه على التراب والأزقة والممرات الضيقة، وأخرون يرشونه على حدائقهم البهية والجميلة يستمتعون بمسابحهم تحت أشعة الشمس المنسلة خلف الحيطان العالية والمحروسة، وأخرون يفرون من حر الشمس اللافح بحثا عن الظل والتراب الندي وهروبا من شقاء الضيعات والشوارع، يتسلل إليهم الهواء المنعش من تحت رائحة التراب وحصير البلاستيك والضيعات المجاورة، الحركة بطيئة في الخارج وحتى في الداخل، وهواء ساخن يلقي بحر أنفاسه على الجميع حتى صار الكل مشغولا بالعطش وهمه البحث عن الماء لا غير.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.