هل انتهت قصة ملاك…؟
عادل عزيزي
منذ الصباح أحاول أن أشرع في المقال فتتوارى المقدّمة التي اختارها، حتى الكلام يتنحّى عن وصف قسوة المشهد، وترفض العبارات أن تكون في مقدمة الوجع.. لكن لا بدّ من الكتابة عن الألم، فحتى تقتلع الشوكة من الكف لا بد أن تغرز في اللحم إبرة لتطردها..
فاجعة ملاك ترهق العيون وتدمع القلب.. لأن القصص المأساوية تصبح أكثر إيلامًا عندما يكون ضحاياها الأبرياء هم أطفالنا الصغار، عندما تعيش أرواحهم النقية في عالمٍ تعصف به الأشباح المخيفة! أصغر هذه التفاصيل أكبر من أن توصف في مقال.. انطفأ بريق الحياة فجأة ذهبت ملاك الى ما وراء الشفق الأزرق و لم يبقى من آثارها في هذا العالم سوى غصة أليمة في ظلال أشجار الصنوبر، حلقت روحها الطاهرة في رحاب السماء، كعصفور عانق نور الحرية بعد سنوات من سجن الحياة، و جد السلاح الأبيض عبر عنقها سبيلا له، و على يد مجنون لاقت الملاك حتفها.
كنا قد تجاوزنا في فترة مضت حوادث “المختلين عقليا” التي كانت تفجعنا كل أسبوع بأسماء ووقائع وصور مفزعة، عدد من الضحايا رحلوا وتركوا وراءهم قصصاً مأساوية وعائلات لا زالت تعيش وحشة غيابهم ولم يلتئم جرح فراقهم بعد و ما قصة ضحايا عين عائشة غير بعيد..
شُحت الابتسامة من على الوجوه وغادرة الفرحة أعشاشها القديمة الآمنة التي كانت ترسمها على المحيي في الطفولة والصبا والشباب، واستوطنتها أسراب الغربان المتوحشة المتشحة بالسواد وصار الإنسان يلعق جراحه وجراح أخيه، حتى أصبحنا كالخشب المسندة نخاف من كل صيحة في الأفق، نحسبها نذير شؤم يدق أجراس آذاننا بالخوف والخطر النائم بين الأضلع الغاوية، ونكره الفرح والحياة كالفراش وهو يتراقص حول حلبة النار الملتهبة غير آبهين لشيء، فالحياة أصبحت لدينا فرض عيش بليد لابد أن نعيش أيامها .
سُرق كل شيء منا على يد أناس لا يعرفون معنى الرحمة معنى الإنسانية، فقدوا ضمائرهم وأودعوها في قمامة الظلمة والخوف، تراقصت نفوسهم وأبدانهم طربا عل أجساد موتانا بنشوة حين سنحت لهم الفرصة بالتسلط بغفلة من الزمن، تحكموا برقاب الناس وتولوا أمورهم بعدما دار الزمان ظهره وأشاحت الحياة عن المظلومين بوجهها المخادع ليصبحوا تحت رحمة من لا رحمة له.
تعود هؤلاء الراقصون سماع أنين الموتى الأحياء وطربو بزهو الفرحة وهم يرقصون على دكاة حلبة الموتى الصاخبة منتشين بكؤوس دم الجرحى من الأطفال و النساء و الشيوخ في لياليهم الحمراء، بعيدا عن معاناة الجياع والمحرومين القابعين في دهاليز المعاناة والعوز، ورائحة الموت تزين جدران الحياة المتهالكة من عبث وظلم المتنفذين والمنتفعين حيث تعود البعض منهم أن ينهشوا لحوم الأبرياء، ويتفاخرون بعدد المقابر ويتبارون بعدد الموتى لأنهم فقدوا طعم الحياة الشريفة وأحبوا الرقص في نوادي المقابر على مسمع ومرأى الشرفاء .
رحلت ملاك و حقيبتها المدرسية ما زالت في مكانها، لم ينته الفصل الثاني يا ملاك و ما زال في دفاترك بعض البياض و بعض الصور في الكتب لم تلون.. قتلت ملاك تاركة ملابسها وألعابها و صورها على هاتف و الدتها و ضحكتها التي لا تغيب أبدا.. رحلت ملاك و لم تستلم شهادة الفصل الرابع، فمت زال اسمها في سجل المدرسة حاضرا و صوتها حاضرا و فراشها الدافئ حاضرا..
رحلت ملاك على شكل دمعة دافئة تسللت من الأهداب و بين صرخات و آهات زميلاتها على نهاية لا يستحقها قلب عامر بأسراب أحلام ملونة بريشة ذهبية، بحروف نسجتها أنامل من السكر ليغرق الحزن كل القلوب..
نعم ملاك ليست الأولى و لن تكون الأخيرة، لقصص مؤلمة عاشها إقليم تاونات.. لكن هل انتهت قصة ملاك، يا لها من نهاية محزنة..! فالتاريخ يدون.